سورة النور - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


ولما نبه على خداعهم، أشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم، وإلى قبول شهادة التوسم فيهم، أمر بترغيبهم وترهيبهم، مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم فقال: {قل أطيعوا} أيها الذين أقروا بالإيمان {الله} أي الذي لم الكمال المطلق {وأطيعوا الرسول} أي لاذي له الرسالة المطلقة، ظاهراً وباطناً لا كالمنافقين {فإن تولوا} أي توجد منكم التولية عن ذلك عصياناً له ولو على أدنى وجوه التولية- بما أشار إليه حذف التاء، تضلوا فلا تضروا إلا أنفسكم، وهو معنى قوله: {فإنما عليه} أي الرسول {ما حمل} أي من التبليغ ممن إذا حمل أحداً شيئاً فلا بد من حمله له أو حمل ما هو أثقل منه {وعليكم ما حملتم} من القبول، وليس عليه أن يقسركم على الهداية؛ وأفهم بقوله: {وإن تطيعوه} أي بالإقبال على كل ما يأمركم به {تهتدوا} أي إلى كل خير أنه لا هداية لهم بدون متابعته؛ روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» قال: فقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: عليكم بالسواد الأعظم! قال فقال رجل: ما السواد الأعظم؟ فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم}.
ولما كان ما حمله الرسول صلى الله عليه وسلم مبهماً، عينه بقوله: {وما على الرسول} أي من جهة غيره {إلا البلاغ المبين} أي التبليغ الذي يحصل به البلاغ من غير شك، إما بالإيضاح وحده أو مضموماً إلى السيف فما دونه من أنواع الزواجر.
ولما لاح بهذا الإذن في الكف عن قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين لئلا يقول الناس: إن محمداً استنصر بقوم، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم. فيمتنع من يسمع ذلك من الدخول في الإسلام، فتكون مفسدة قتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكناً لا يؤثر فيه مثل ذلك، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر؟ فجلى الله عنهما هذا الكرب بقوله: بياناً لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا: {وعد الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {الذين آمنوا} وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيباً لمن نظر في الدنيا نوع نظر؛ وقيد بقوله: {منكم} تصريحاً بأهل القرن الأول، ليكون ظاهراً فس إخراج المنافقين المتولين بالإعراض، إشارة إلى أنهم لا يزالون في ذل وضعة؛ وقدم هذا القيد اهتماماً به لما ذكر بخلاف ما يأتي في سورة الفتح {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الإذعان للأحكام وغيرها، وأكد غاية التأكيد بلام القسم، لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك فقال: {ليستخلفنهم في الأرض} أي أرض العرب والعجم، بأن يمد زمانهم، وينفذ أحكامهم {كما استخلف} أي طلب وأوجد خلافة بإيجادهم {الذين من قبلهم} أي من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} وكما قال موسى عليه السلام: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} {وليمكنن لهم} أي في الباطن والظاهر {دينهم} أضافة إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه وأنه أبديّ لا ينسخ {الذي ارتضى لهم} حتى يقيموا الحدود فيه من قتل وغيره على الشريف والوضيع سواء كان الواقعون في ذلك عصبة أم لا، لا يراعون أحداً، ولا يخافون لومة لأئم، لأنه لا يضره إذ ذاك إدباراً مدبر كما قال صلى الله عليه وسلم عن الحرورية كافة: «إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، بعد أن كف عن قتل رأسهم ونهى عن قتله- وهو واحد في غزوة حنين».
ولما بشرهم بالتمكين، أشار لهم إلى مقداره بقوله: {وليبدلنهم} وأشار إلى عدم استغراق هذا الأمن العام لجميع الزمان بإثبات الجارّ فقال: {من بعد خوفهم} هذا الذي هم فيه الآن {أمناً} أي عظيماً بمقدار هذا الخوف، في زمن النبوة وخلافتها؛ ثم أتبع ذلك نتيجته بقوله تعليلاً للتمكين وما معه: {يعبدونني} أي وحدي؛ وصرح بالمراد بياناً لحال العابدة النافعة بقوله: {لا يشركون بي شيئاً} ظاهراً ولا باطناً، لأن زمانهم يكون زمن عدل، فلا يتحابون فيه بالرغبة والرهبة، روى الطبراني في الوسط عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم المدينة، وآوتهم الأنصار- رضي الله عنهم أجمعين، رمتهم العرب من قوس واحدة فنزلت {ليستخلفنهم في الأرض} الآية. ولقد صدق الله سبحانه ومن أصدق من الله حديثاً- ففتح سبحانه لهم البلاد، ونصرهم على جبابرة العباد، فأذلوا رقاب الأكاسرة، واستعبدوا أبناء القياصرة، ومكنوا شرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» يعرف ذلك من طالع فتوح البلاد، وأجمعها وأحسنها النصف الثاني من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي، وكتاب شيخه ابن حبيش أيضاً جامع، ولا أعلم شيئاً أنفع في رسوخ الإيمان، بعد حفظ القرآن، من مطالعة السير والفتوح، وسيرة الكلاعي جامعة للأمرين، ونظمي للسيرة في القصيدة التي أولها:
ما بال جفنك هامي الدمع هامره *** وبحر فكرك وافي الهم وافره
أجمع السير يسر الله إكمال شرحها، آمين.
ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه، وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن رضي الله عنهما، نزع الله ذلك الأمن كما أشير إليه ب {من} وتنكير {أمناً} وجاء الخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم- والله المستعان.
ولما كان التقدير: فمن ثبت على دين الإسلام، وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى، عطف عليه قوله: {ومن كفر} أي بالإعراض عن الأحكام أو غيرها؛ أو هو عطف على {يعبدونني} لأن معناه: ومن لم يعبدني.
ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك، أسقط الجار فقال: {بعد ذلك} أي الاستخلاف العظيم على الوجه المشروح {فأولئك} البعداء من الخير {هم} خاصة {الفاسقون} أي الخارجون من الدين خروجاً كاملاً، لا تقبل معه معذرة، ولا تقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى فيهم ملام، ولا تأخذ بهم رأفة عند الانتقام، كما تقدم في أول السورة فيمن لزمه الجلد، ولعل الآية مشيرة إلى أهل الردة.
ولما تمت هذه البشرى، وكان التقدير: فاعملوا واعبدوا، عطف عليه قوله: {وأقيموا الصلاة} أي فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم، مع أنه يصح عطفه على قوله: {أطيعوا الله} فيكون من مقول {قل} {وآتوا الزكاة} فهي نظام ما بينكم وبين إخوانكم {وأطيعوا الرسول} أي المحيط بالرسالة في كل ما يأمركم به، فإنما هو عن أمر ربكم {لعلكم ترحمون} أي لتكونوا عند من يجهل العواقب على رجاء من حصول الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره.


ولما كان الكفار من الكثرة والقوة بمكان، كان الحال جديراً بتأكيد معنى التمكين، جواباً لسؤال من كأنه قال: وهل ذلك ممكن فقال: {لا تحسبن} أي أيها المخاطب {الذين كفروا} أي وإن زادت كثرتهم على العد، وتجاوزت عظمتهم الحد، فإن ذلك الحسبان ضعف عقل، لأن الملك لا يعجزه من تحت قهره، ويجوز أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لزيادة تحقيقه، لأنه على قدر عظمة المخاطب يكون إنجاز الوعد {معجزين} لأهل ودنا {في الأرض} فإنهم مأخوذون لا محالة {ومأواهم} أي مسكنهم ومنزلهم بعد الأخذ {النار}. ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد الصيرورة إليه قال: {ولبئس المصير} مصيرها! فكيف إذا كان على وجه السكنى.
ولما كان الملل من شيم النفوس، فكان تدريج الكلام في المقاصد لا سيما الأحكام شيئاً فشيئاً خلال مقاصد أخرى أوقع في القلب، وأشهى إلى الطبع، لا سيما إذا كان على وجوه من المناسبات عجيبة، وضروب من الاتصالات هي مع دقتها غريبة، زين الله تأصيلها بتفصيلها فابتدأ السورة بطائفة منها، وفصلها بدر الوعظ، وجواهر الحكم، والحث على معالي الأخلاق، ومكارم الأعمال، ثم وصلها بالإلهيات التي هي أصولها، وعن علي مقاماتها تفرعت فصولها، فلما ختمها بالتمكين لأهل هذا الدين، وتوهين أمر المعتدين، شرع في إكمالها، بإثبات بقية أحوالها، تأكيداً لما حكم به من التمكين، وما ختمه من ذلك من التوهين، وتحذيراً مما ختمه من العذاب المهين، وتحقيقاً لما ألزم به من الطاعة، ولزوم السنة والجماعة، فقال واصلاً بما ختم به الأحكام الأولى، من الأمر بإنكاح الأيامى، والكف عن إكراه البغايا، إثر الذين لم يظهروا على عورات النساء: {يا أيها الذين آمنوا} أي من الرجال والنساء، إما للتغليب، وإما لأن النساء أولى بحفظ العورة {ليستأذنكم} تصديقاً لدعوى الإيمان {الذين ملكت أيمانكم} من العبيد والإماء البالغين، ومن قاربهم، للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم {والذين} ظهروا على عورات النساء، ولكنهم {لم يبلغوا الحلم} وقيده بقوله: {منكم} ليخرج الأرقاء والكفار {ثلاث مرّات} في كل دور، ويمكن أن يراد: ثلاث استئذانات في كل مرة، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم: المرة الأولى من الأوقات الثلاث {من قبل صلاة الفجر} لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم {و} الثانية {حين تضعون ثيابكم} أي التي للخروج بين الناس {من الظهيرة} للقائلة {و} الثالثة {من بعد صلاة العشاء} لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة، والاتصال بثياب النوم، وخص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة، ووضع الثياب، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط، ثم علل ذلك بقوله: {ثلاث عورات} أي اختلالات في التستر والتحفظ، وأصل العورة- كما قال البيضاوي: الخلل.
لأنه لما كانت العورة تبدو فيها سميت بها {لكم} لأنها ساعات وضع الثياب والخلوة بالأهل، وبين حكم ما عدا ذلك بقوله مستأنفاً: {ليس عليكم} أي في ترك الأمر {ولا عليهم} يعني العبيد والخدم والصبيان، في ترك الاستئذان {جناح} أي إثم، وأصله الميل {بعدهن} أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم؛ ثم علل الإباحة في غيرها، مخرجاً لغيرهم، مبيناً أن حكمة الاستئذان في كل وقت كما مضى بقوله: {طوافون عليكم} أي لعمل ما تحتاجونه في الخدمة كما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام {بعضكم} طواف {على بعض} لعمل ما يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج.
ولما أعلى سبحانه البيان في هذه الآيات إلى حد يعجز الإنسان لا سيما وهي في الأحكام، والكلام فيها يعيي أهل البيان، وكان السامع لما جبل عليه من النسيان، يذهل عن أن هذا هو الشأن، في جميع القرآن، قال مشيراً إلى عظم شأنها، في تفريقها وبيانها: {كذلك} أي مثل هذا البيان {يبين الله} بما له من إحاطة العلم والقدرة {لكم} أيتها الأمة الخاصة {الآيات} في الأحكام وغيرها وبعلمه وحكمته {والله} الذي له الإحاطة العامة بكل شيء {عليم} بكل شيء {حكيم} يتقن ما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ كما قال الشعبي وغيره- أفاده ابن كثير، وحُكي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير.
ولما بين حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خير، أتبعه حكم البالغين من الأحرار فقال: {وإذا بلغ الأطفال منكم} أي من أحراركم {الحلم} أي السن الذي يكون فيه إنزال المني برؤية الجماع في النوم، هذا أصله، والمراد سن مطلق الإنزال {فليستأذنوا} على غيرهم في جميع الأوقات {كما استأذن الذين من قبلهم} على ما بين في أول الآيات القائلة {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا} ونقل ابن كثير عن يحيى بن أبي كثير وسعيد بن جبير أن الغلام إذا كان رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال.
ولما كانت آيات الاستئذان أتقن حاسم لمواد الشر، وتركها أعظم فاتح لأبواب الفتن، وكان إخراج الكلام، في أحكام الحلال والحرام، مع التهذيب والبيان، في النهاية من الصعوبة، وكان فطم النفوس عما ألفت في غاية من العسر شديدة، أشار سبحانه إلى ذلك بتكرير آية البيان، إشارة إلى أنها- لما لها من العلو- جديرة بالتأكيد، وإلى أن البلغاء يستبعدون القدرة على البيان كلما أريد على هذا السنن فقال: {كذلك} أي مثل ذلك البيان الذي بينه في آيات الأحكام {يبين الله} بما له من صفات الكمال {لكم} مع ما لكم من خلال النقص {آياته} أي العلامات الدالة عليه من هذه الفرعيات وما رقت إليه الأصليات، فأضافها إليه سبحانه تعظيماً لها، إشارة إلى أنها مقدمة للآيات الإلهيات، لأن من لم يتفرغ من مكدرات الأفكار، لم يطر ذلك المطار، وحثاً على تدبر ما تقدم منها لاستحضار ما دعت إليه من الحكم، وفصلت به من المواعظ، وتنبيهاً على ما فيها من العلوم النافعة ديناً ودنيا، وزاد في الترغيب في العلم والحكمة إشارة إلى أن ذلك سبب كل سعادة فقال: {والله} أي المحيط بكل شيء {عليم حكيم} روى الطبراني وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: لما كانت صبيحة احتلمت دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني قد احتلمت، فقال: «لا تدخل على النساء» فما أتى عليّ يومٌ كان أشد منه.
ولما ذكر سبحانه اقتبال الشباب، في تغيير حكم الحجاب، أتبعه الحكم عند إدبار الشباب، في إلقاء الظاهر من الثياب، فقال: {والقواعد} وحقق ألمر بقوله: {من النساء} جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد وعن الحيض كبراً وعن الزوج. ولما كان هذا الأخير قطبها قال: {اللاتي لا يرجون نكاحاً} أي لعدم رغبتهن فيه أو لوصولهن إلى حد لا يرغب فيهن معه {فليس عليهن جناح} أي شيء من الحرج في {أن يضعن ثيابهن} أي الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {من ثيابهن} قال أبو صالح: تضع الجلباب، وهو ما يغطي ثيابها من فوق كالملحفة، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار {غير متبرجات بزينة} أي متعمدات- بوضع ما أبيح لهن وضعه إظهار وجوههن مع الزينة، أو غير متظاهرات بالزينة، قال في الجمع بين العباب والمحكم: تبرجت المرأة: أظهرت وجهها. وفي القاموس: تبرجت: أظهرت زينتها للرجال- انتهى. ومادة برج تدور على الظهور كما مضى في الحجر؛ وقال البيضاوي: وأصل البرج التكلف في إظهار ما يخفى- انتهى. وكأنه أشير بصيغة التفعل إلى أن ما ظهر منها من وجهها أو زينتها عفواً غير مقصود به الفساد لا حرج فيه.
ولما ذكر الجائز، وكان إبداء الوجه داعياً إلى الريبة، أشار إليه بقوله ذاكراً المستحب، بعثاً على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها: {وأن يستعففن} أي يطلبن العفة بدوام الستر وعدم التخفف بإلقاء الجلباب والخمار {خير لهن} من الإلقاء المذكور.
ولما كان ما ذكر من حالهن من الخلطة على ذلك الوصف معلوماً أنه لا يخلو عن كلام، كان التقدير: فالله في وضع الحرج عنهن رؤوف بهن رحيم، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {سميع} أي لكلامهن إذا خاطبن الرجال هل يخضعن فيه ويتصنعن في ترخيم الصوت به أو يلقينه على الحالة المعروفة غير المنكرة {عليم} بما يقصدن به وبكل شيء.


ولما أتم سبحانه ما ذكر من حرمات البيوت المستلزمة لصيانة الأبضاع على وجه يلزم منه إحراز الأموال، أتبعه ما يباح من ذلك للأكل الذي هو من أجلّ مقاصد الأموال اجتماعاً وانفراداً، فقال في جواب من كأنه سأل: هل هذا التحجير في البيوت سارٍ في الأقارب وغيرهم في جميع الأحوال؟: {ليس على الأعمى حرج} أي في مؤاكلة غيره وما يأتي من الأحكام، وإن كره غيره أكله لمد يده كيفما اتفق فإنه مرحوم، والاستئذان من أجل البصر {ولا على الأعرج} الذي لايرجى {حرج} وإن تقذر منه بعض المترفين فإنه يجامعه في أنه يرحم لنقصه {ولا على المريض} أي مرضاً يرجى بعرج أو غيره {حرج} كذلك لمرضه، وأخره لرجاء برئه {ولا على أنفسكم} أي ولا على غير من ذكر، وعبر بذلك تذكيراً بأن الكل من نفس واحدة {أن تأكلوا من بيوتكم} أي التي فيها عيالكم، وذكرها سبحانه لئلا يحصل من تركها لو تركها ريبة، وليدخل فيها بيوت الأولاد لأنهم من كسب الأب «أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه»، «أنت ومالك لأبيك» {أو بيوت آبائكم} وإن بعدت أنسابكم- ولعله جمع لذلك- فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم {أو بيوت أمهاتكم} كذلك، وقدم الأب لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له {أو بيوت إخوانكم} من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين، لأنهم أشقاؤكم، وهم أولياء بيوتهم {أو بيوت أخواتكم} فإنهن بعدهم، من أجل أن ولي البيت- إذا كن مزوجات- الزوج {أو بيوت أعمامكم} فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أو أم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط فإنه أحق بالاسم {أو بيوت عماتكم} فهن بعد الأعمام لضعفهن، ولأنه ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج {أو بيوت أخوالكم} لأنهم شقائق أمهاتكم {أو بيوت خالاتكم} أخرهن لما ذكر {أو ما ملكتم مفاتحه} أي التصرف فيه بوجه من الوجوه كالوكالة {أو صديقكم} الذي تعرفون رضاه بذلك ولو بقرينة كما هو الغالب، ولذلك أطلقه، وإن لم يكن أمكنكم من مفتاحه بل كان عياله فيه، كل ذلك من غير إفساد ولا حمل ولا ادخار، وقد عدل الصديق هنا بالقريب، تنبيهاً على شريف رتبة الصداقة ولطيف سرها، وخفيف أمرها، وأفرده لعزته؛ وعن جعفر بن محمد: من عظم حرمة الصديق أن جعله كالنفس والأب ومن معه. قال الأصبهاني: وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وبما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل.
ولما ذكر معدن الأكل، ذكر حاله فقال: {ليس عليكم جناح} أي شيء من الإثم الذي من شأنه أن يميل بصاحبه عن السواء في {أن تأكلوا جميعاً} أي مجتمعين وإن كان بينكم ناقص الخلقة، لأن من كان معرضاً للآفات جدير بأن يرحم المبتلى، فلا يستقذره حذراً من انعكاس الحال.
ولما رغب في أول الإسلام- لما كان فيه أكثر الناس من الضيق- في المؤاساة، والاجتماع مع الضيوف، ترغيباً ظن به الوجوب، مع ما كانوا عليه من الكرم الباعث على الجود والاجتماع للأنس بالمحتاج، خفف عنهم بقوله: {أو أشتاتاً} أي متفرقين لغير قصد الاستقذار، والترفع والإضرار، وإن كان الأكل في جماعة أفضل وأبرك- كما يفهمه تقديمه، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال: «فلعلكم تأكلون متفرقين؟ اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» ولابن ماجه عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة».
ولما ذكر موطن الأكل وكيفيته، ذكرالحال التي يكون عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها، فقال مسبباً عما مضى من الإذن، معبراً بأداة التحقيق، بشارة بأنهم يطيعون بعد أن كانوا تحرجوا من ذلك حين أنزل تعالى {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29]: {فإذا دخلتم} أي بسبب ذلك أو غيره {بيوتاً} أي مأذوناً فيها، أيّ بيوت كانت مملوكة أو لا، مساجد أو غيرها {فسلموا} عقب الدخول {على أنفسكم} أي أهلها الذين هم منكم ديناً وقرباً، وعبر بذلك ترغيباً في السلام، والإحسان في الإكرام، ولتصلح العبارة لما إذا لم يكن فيها أحد فيقال حينئذ «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز {تحية} مصدر من المعنى دون اللفظ، أو أوقعوا الدعاء للمحيي بسلامة وحياة وملك بقاء {من عند الله} أي هي جديرة لتمام حسنها أن تضاف إلى من له الكمال كله سبحانه {مباركة} أي ثابتة أعظم ثبات بكونها موافقة لما شرع الله من خالص قلوبكم {طيبة} تلذذ السمع؛ ثم وصف البيان، تنبيهاً على ما في هذه الآيات من الحسن والإحسان، فقال مستأنفاً كما مر غير مرة: {كذلك} أي مثل هذا البيان، العظيم الشأن {يبين الله} أي المحيط بكل شيء {لكم الآيات} التي لا أكمل منها.
ولما كان الله تعالى، بعلمه وحكمته، وعزه وقدرته، ولطفه وخبرته، قد خلق عقلاً نيراً يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وقسمه بين عباده، وخلق فيهم أنواعاً من العوائق لذلك العقل عن النفوذ على سمت الاستقامة، من الهوى والكسل، الفتور والملل، جعلها حجباً تحجبه عن النفوذ، وتستر عنه المدارك، وتمنعه من البلوغ، إلا برياضات ومجاهدات تكل عنها القوى، وتضعف عندها العزائم، فلا يكاد الماهر منهم يرتب قياساً صحيحاً، لغلطه في المقدمات، فتكون النتيجة حينئذ فاسدة القاعدة، واهية الأساس، فكانوا لا يزالون لذلك مختلفين، حتى يوصلهم الاختلاف إلى الإحن، والمشاجرة والفتن، فيجرهم إلى السيف وذهاب النفوس تلف الأرواح، فأنزل سبحانه لهم في كل وقت شرعاً يليق بذلك الزمان على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام، جعل ذلك الشرع يطابق العقل السوي، والنور الضوي، والمنهل الروي، والسبب القوي، من تمسك به هدي ولم يزغ، حد فيه سبحانه حدوداً، وأقام فيه زواجر، لتظهر حكمته، ويتضح علمه وقدرته، فصارت شرائع متفقة الأصول، مختلفة الفروع، بحسب الأزمنة، إشارة إلى أن الفاعل في تغيير الأحكام بحسب الأزمان واحد مختار، وامتحاناً للعباد، تمييزاً لأهل الصلاح منهم من أهل الفساد، وكانت الإغارة على شيء من الأعراض والأموال على غير ما أذن فيه تُذهب العقول، وتعمي البصائر، ختم الآية بقوله: {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من ثبات هذا الوصف لكم، وهو ضبط النفوس وردها عن الأهوية، باتباع آيات الشرع التي أنزلها الذي كرر وصفه هنا بأنه عليم حكيم، فلا تتولوا بعد قولكم: {سمعنا وأطعنا} [المائدة: 7] عن الإذعان للأحكام وأنتم معرضون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7